فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانت قلتهم إنما هي بالنسبة إلى كثرة آل فرعون وقوتهم وما لهم عليهم من هيبة الاستعباد، وكان التعبير بالشرذمة موهمًا لأنهم في غاية القلة، أزال هذا الوهم بالتعبير بالجمع دون المفرد ليفيد أنه خبر بعد خبر، لا صفة، وأن التعبير بالشرذمة إنما هو للإشارة إلى تفرق القلوب، والجمع ولاسيما ما للسلامة مع كونه أيضًا للقلة أدل على أنهم أوزاع، وفيه أيضًا إشارة إلى أنهم مع ضعفهم بقلة العدد آيسون من إسعاف بمدد.
وليس لهم أهبة لقتال لعدم العدة لأنهم لم يكونوا قط في عداد من يقاتل كما تقول لمن تزدريه: هو أقل من أن يفعل كذا، فقال: {قليلون} أي بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى وإن كانوا في أنفسهم كثيرين، فلا كثرة لهم تمنعكم أيها المحشورون من اتباعهم؛ قال البغوي عن ابن مسعود رضي الله عنهما: كانوا ستمائة ألف وتسعين ألفًا، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون-. انتهى.
وكل هذا بيان لأن فرعون مع تناهي عظمته لم يقدر على أثرٍ ما في موسى عليه السلام ولا من اتبعه تحقيقًا لما تقدم من الوعد به أول القصة.
ولما ذكر ما يمنع الخوف من اتباعهم، ذكر ما يوجب الحث عليه ويحذر من التقاعس عنه فقال: {وإنهم لنا} ونحن على ما نحن عليه من الكثرة والعظمة {لغائظون} أي بما فجعونا به من أنفسهم وما استعاروه من الزينة من أواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة، فلا رحمة في قلوبكم تحميهم.
ولما كان مدار مادة شرذم على التقطع.
فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد، وذكر أن في اتباعهم شفاء الغلل، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل، فقال: {وإنا لجميع} أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد.
ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم، وفي مضادة لما أشير إليه ب {قليلون} من الاستضعاف فقال: {حاذرون} أي ونحن- مع إجماع قلوبنا- من شأننا وطبعنا الحذر، فنحن لا نزال على أهبة القتال، ومقارعة الأبطال، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم، وإدرار الأرزاق فيكم، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد، وجميع ما يحتاج إليه المحارب، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم، ومكرهم لديكم، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء: أحدها لوزرائه وكتابه وجنده، والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور، والثالث له ولولده، والرابع يفرق من مدن الكور، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قوّاهم به؛ وري أنه قصده قوم فقالوا: نحتاج إلى أن نحفر خليجًا لنعمر ضياعنا، فإذن في ذلك واستعمل عليهم عاملًا فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم، فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم، فإن الملك إذا استغن بمال رعيته افتقر وافتقروا، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا.
ولما كان التقدير: فأطاعوا أمره، ونفوا على كل صعب وذلول، عطف عليه قوله معلمًا بما آل إليه أمرهم: {فأخرجناهم} أي بما لنا من القدرة، إخراجًا حثيثًا مما لا يسمح أحد بالخروج منه {من جنات} أي بساتين يحق لها أن تذكر {وعيون} لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر {وكنوز} من الأموال تعرف بمقدار ما هم فيه من النعم الفاضلة عنهم، مع ما هم فيه من تمام الاستعداد لمثل هذا المراد {ومقام} من المنازل {كريم} أي على صفة ترضي الرائي له لأنه على النهاية من الحسن لا يقال فيه: ليته كان كذا، أو كان كذا.
ولما كان الخروج عن مثل هذا مما يستنكر، أشار إلى عظمة القدرة عليه بقوله: {كذلك} أي مثل ذلك الإخراج العجيب الذي أراده فرعون من قومه في السرعة والكمال الهيبة أخرجناهم نحن بأن يسرنا له ولهم ذلك، ووفرنا لهم الأسباب، لما اقتضته حكمتنا، أو مثل ذلك الخروج الذي قصصناه عليك أخرجناهم، أي كان الواقع من خروجهم مطابقًا لما عبرنا به عنه، أو الأمر الذي قصصناه كله كما قلنا وأولها أقعدها وأحسنها وأجودها {وأورثناها} أي تلك النعم السرية بمجرد خروجهم بالقوة وبإهلاكهم بالفعل {بني إسرائيل} أي جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعًا يمنعهم منها بعد أن كانوا مستبعدين تحت أيدي أربابها، وأما إرثهم لها بالفعل ففيه نظر لقوله في الدخان {قومًا آخرين}.
ولما وصف الإخراج، وصف أثره فقال مرتبًا عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوة: {فأتبعوهم} أي جعلوا أنفسهم تابعة لهم {مشرقين} أي داخلين في وقت شروق الشمس، أي طلوعها من صبيحة الليلة التي سار في نصفها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن على حكم العادة في أقل من عشرة أيام، فإنه أمر يعجز الملوك مثله، فيا له من حشر ما أسرعه! وجهاز ما أوسعه! واستمروا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم كما تقدم في الأعراف شرح ذلك عن التوراة، وتقدم سر تسييرهم في تلك الطريق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}.
قرئ {أَسَرَّ} بقطع الهمزة ووصلها وسر.
لما ظهر أمر موسى عليه السلام بما شاهدوه من الآية، أمره الله تعالى بأن يخرج ببني إسرائيل لما كان في المعلوم من تدبير الله تعالى في موسى وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم، ولم يأمن وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع من فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل، وهم الذين آمنوا وكانوا من قوم موسى، ولا شبهة أن في الكلام حذفًا وهو أنه أسرى بهم كما أمره الله تعالى، ثم إن قوم موسى عليه السلام قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيدًا، ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع ذلك فرعون أرسل في المدائن حاشرين، ثم إنه قوى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم، ووصف قوم نفسه بصفة المدح أما وصف قوم موسى عليه السلام بالذم.
فالصفة الأولى: قوله: {إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} والشرذمة الطائفة القليلة، ومنه قولهم ثوب شراذم للذي بلي، وتقطع قطعًا ذكرهم بالاسم الدال على القلة، ثم جعلهم قليلًا بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلًا واختار جمع السلامة الذي هو للقلة وقد يجمع القليل على أقلة وقلل، ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والقماءة لا قلة العدد، والمعنى أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ثم اختلف المفسرون في عدد تلك الشرذمة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم لكثرة من معه، وهذا الوصف قد يستعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثلثمائة ألف.
الصفة الثانية: قوله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} يعني يفعلون أفعالًا تغيظنا وتضيق صدورنا، واختلفوا في تلك الأفعال على وجوه: أحدها: ما تقدم من أمر الحلي وغيره وثانيها: خروج بني إسرائيل عن عبودية فرعون واستقلالهم بأنفسهم وثالثها: مخالفتهم لهم في الدين وخروجهم عليهم ورابعها: ليس إلا أنهم لم يتخذوا فرعون إلهًا.
أما الذي وصف فرعون به قومه فهو قوله: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون} وفيه ثلاث قراءات {حذرون} و{حاذرون} و{حادرون} بالدال غير المعجمة.
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهي اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث، وإذا لم تكن كذلك وهي الشبهة أفادت الثبوت، فمن قرأ: {حاذرون} ذهب إلى إنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم، ومن قرأ: {حاذرون} فكأنه ذهب إلى معنى إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا.
وأما من قرأ: {حادرون} بالدال غير المعجمة فكأنه ذهب إلى نفي الحذر أصلًا، لأن الحادر هو المشمر، فأراد إنا قوم أقوياء أشداء، أو أراد إنا مدججون في السلاح، والغرض من هذه المعاذير أن لا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى أو خائف منهم.
أما قوله تعالى: {فأخرجناهم} فالمراد إنا جعلنا في قلوبهم داعية الخروج فاستوجبت الداعية الفعل، فكان الفعل مضافًا إلى الله تعالى لا محالة.
وأما قوله: {مّن جنات وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ} فقال مجاهد: سماها كنوزًا، لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى، والمقام الكريم يريد المنازل الحسنة والمجالس البهية، والمعنى إنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة، والمواضع التي كانوا يتنعمون فيها لنسلمها إلى بني إسرائيل.
أما قوله كذلك فيحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، والجر على أنه وصف لمقام كريم، أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك.
أما قوله: {فَأَتْبَعُوهُم} أي فلحقوهم، وقرئ {فاتبعوهم} {مُشْرِقِينَ} داخلين في وقت الشروق من أشرقت الشمس شروقًا إذا طلعت. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}.
في الشرذمة وجهان:
أحدهما: أنهم سفلة الناس وأدنياؤهم، قاله الضحاك، ومنه قول الأعشى:
وهم الأعبد في أحيائهم ** لعبيدٍ وتراهم شرذمة

الثاني: أنهم العصبة الباقية من عصبة كبيرة وشرذمة كل شيء بقيته القليلة. ويقال لما قطع من فضول النعال من الجلد شراذم، وللقميص إذا خلق شراذم، وأنشد أبو عبيدة.
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ** شراذم يضحك منها التواق

واختلف في عدد بني إسرائيل حين قال فرعون فيهم: إنه لشرذمة قليلون، على أربعة أقاويل:
أحدها: ستمائة وتسعين ألفًا، قال مقاتل: لا يعد ابن عشرين سنة لصغيره ولا ابن ستين لكبره، وهو قول السدي.
الثالث: كانوا ستمائة ألف مقاتل، قاله قتادة.
الرابع: كانوا خمسمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة، وإنما استقل هذا العدد لأمرين:
أحدهما: لكثرة من قتل منهم.
الثاني: لكثرة من كان معه، حكى السدي أنه كان على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماديانه، وقال الضحاك كانوا سبعة آلاف ألف.
قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ} قراءة ابن كثير ونافع، وأبي عمرو، وقرأ الباقون {حَاذِرُونَ} وفيه أربعة أوجه:
أحدها: أنهما لغتان ومعناهما واحد، حكاه ابن شجرة وقاله أبو عبيدة واسْتَشْهَد بقول الشاعر:
وكنت عليه أحذر الموت وحده ** فلم يبق لي شيء عليه أحاذره

الثاني: أن الحذر المطبوع على الحذر، والحاذر الفاعل الحذر، حكاه ابن عيسى.
الثالث: أن الحذر الخائف والحاذر المستعد.
الرابع: أن الحذر المتيقظ، والحاذر آخذ السلاح، لأن السلاح يسمى حذرًا قاله الله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُم} [النساء: 102] أي سلاحكم، وقرأ ابن عامر. {حَادِرُونَ} بدال غير معجمة وفي تأويله وجهان:
أحدهما: أقوياء من قولهم جمل حادر إذا كان غليظًا.
الثاني: مسرعون.
قوله تعالى: {وَكُنُوزٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: الخزائن.
الثاني: الدفائن.
الثالث: الأنهار، قاله الضحاك.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها المنابر، قاله ابن عباس، ومجاهد.
الثاني: مجالس الأمراء، حكاه ابن عيسى.
الثالث: المنازل الحسان، قاله ابن جبير.
ويحتمل رابعًا: أنها مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عُدة وزينة فصار مقامها أكرم منزول.
قوله تعالى {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: حين أشرقت الشمس بالشعاع، قاله السدي.
الثاني: حين أشرقت الأرض بالضياء، قاله قتادة.
الثالث: أي بناحية المشرق، قاله أبو عبيدة.
قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل حتى أشرقوا على قولين:
أحدهما: لاشتغالهم بدفن أبكارهم لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم.
الثاني: لأن سحابة أظلتهم فخافوا وأصبحوا، فانقشعت عنهم.
وقرىء {مُشَرِّقِينَ} بالتشديد أي نحو المشرق، مأخوذ من قولهم شرّق وغرّب، إذا سار نحو المشرق والمغرب. اهـ.